الفاشية السحابية- تفاهة الشرّ تجتاح الثقافة الألمانية باسم مكافحة معاداة السامية

المؤلف: د. مروان الغفوري10.30.2025
الفاشية السحابية- تفاهة الشرّ تجتاح الثقافة الألمانية باسم مكافحة معاداة السامية

تشن المؤسسات الألمانية حملة شعواء ومنهجية ضد كل ما يمت بصلة إلى فلسطين، تحت ستار ما يسمى بـ "مكافحة معاداة السامية". وترى الكاتبة الألمانية البارزة، شارلوته فيدامان، في مقال لها منشور على موقع "قنطرة"، أن السبب الحقيقي وراء إلغاء المحاضرات والندوات التي يلقيها الأساتذة الزائرون، أو حتى حفلات توزيع الجوائز المرموقة، ليس هو الاعتقاد الراسخ لدى المسؤولين الألمان بضرورة منع معاداة السامية من التعبير عن نفسها في ألمانيا، بل الخشية العميقة من أن يُتهموا هم شخصيًا بهذه التهمة الباطلة.

لذا، يسارعون إلى غسل أيديهم مسبقًا، متبرئين لأنفسهم على حساب الآخرين الأبرياء. لقد تحول اعترافهم بالذنب التاريخي إلى وثيقة تأمين شخصية، يستخدمونها لإثبات براءتهم من خلال التنديد المستمر بالآخرين. وتعد شارلوته فيدامان من بين النخبة الضئيلة من المثقفين الألمان الذين تجرأوا على الوقوف في وجه هذا التيار الجارف.

وفي سياق متصل، سطرت حنّا آرندت في عملها الشهير "تفاهة الشر" عام 1963، توصيفًا دقيقًا للمواطن البيروقراطي المحايد، الذي يسارع إلى إزاحة الآخرين من طريقه تملقًا للدولة أو استجابة لرغباتها، دون أن يحركه أي دافع أيديولوجي أو خبرة مسبقة.

وتبدو تفاهة المشهد الثقافي جلية كما وصفتها آرندت في ستينيات القرن الماضي، حيث يقدم الفاعل أو المخرب أو المجرم على فعلته النكراء من أجل تحصيل قوت يومه، أو ربما تحقيق مكاسب مادية طفيفة، دون أي اعتبار للمرجعيات الأخلاقية أو القيم النبيلة.

وقد أنجزت آرندت عملها "تفاهة الشر" بعد عامين من محاكمة أدولف آيخمان، أحد أبرز مهندسي الهولوكوست، بعد أن شهدت بنفسها وقائع المحاكمة في القدس. وقد لاحظت آرندت، كما لاحظ العالم أجمع، أن آيخمان لم يبدِ أي ندم على أفعاله الشنيعة، ولم يظهر عليه أي دافع عدواني أو إجرامي تجاه ضحاياه الأبرياء. لقد كان مجرد "ترس صغير في آلة قتل ضخمة لا يملك حيالها أي تأثير"، كما ادعى محاموه.

لقد قتل آيخمان ضحاياه ببرود وبشكل محايد، مدفوعًا بدوافع بيروقراطية تافهة، مثل الحفاظ على منصبه أو الحصول على ترقية مهنية. فالجريمة الكبرى، أو الشر المطلق، تم تنفيذها من قبل فاعلين لا يحملون أي ضغينة لضحاياهم، وغير معنيين بالأيديولوجيا التي تحرك آلة القتل الجهنمية. لقد أقدموا على أفعالهم المروعة وهم راضون عن أنفسهم، حتى أن آيخمان استشهد بالفيلسوف إيمانويل كانط في دفاعه عن نفسه.

والشيء نفسه يتكرر الآن، كما تشير فيدامان. فالرؤساء الذين نسفوا الحياة الثقافية والأكاديمية بأكملها، خوفًا من أن تتسع للصوت الفلسطيني، لم يفعلوا ذلك إلا كتروس صغيرة في آلة كبرى، لا يملكون حيالها أي تأثير. وعندما يقدمون على هذا الفعل المشين، لا يظهر على ملامحهم ما يؤكد أن فلسفة ما تدفعهم لذلك، لا انتصارًا للصهيونية ولا عداء للفلسطينيين. لذا، فإن حججهم التي تنقلها وسائل الإعلام تبدو ساذجة وفارغة المعنى، مثل تصنيف عمدة برلين "كراهية إسرائيل" في خانة الجريمة الجنائية.

تهيمن البيروقراطية على الحياة الألمانية وتتحكم فيها بشكل كامل. وقد وصفت حنّا آرندت البيروقراطية بأنها "شمولية بلا أيديولوجيا". فبمجرد أن تبدأ الماكينة في الدوران، يصبح من الصعب إيقافها، ويمكن لحفنة من الموظفين الرفيعين تغذية تلك العجلة العملاقة بخوارزمية سياسية معينة، مما يؤدي إلى هيمنتها على الحياة العامة. وتتميز هذه الشمولية البيروقراطية بقدرتها الفائقة على فرض إرادتها في وقت قصير. فبعد أيام قليلة من الخلاف بين برلين وموسكو حول أوكرانيا، قام قطاع الثقافة الألماني بتجريم كل ما هو ثقافي روسي، وصولًا إلى الموسيقى الكلاسيكية.

ويعلي القانون الأساسي الألماني من حرية التعبير، ويضعها في مصاف الثوابت الوطنية التي لا ينبغي المساس بها. وعلى الرغم من ذلك، فإن النظام يمتلك القدرة على المساس بها دون أن يخشى من عواقب أفعاله. فالمدونة القانونية الألمانية معقدة للغاية، لدرجة أنه لا يوجد مواطن لديه المعرفة القانونية الكافية لفهمها.

تتجسد البيروقراطية الألمانية في شكل سحابة عملاقة، لا حدود ولا مفاصل لها. وعندما يتم تغذية هذه السحابة بدالة سياسية موجهة، فإنها ستواصل الدوران بشكل لا نهائي، ولا يمكن إيقافها. إنها سحابة شمولية، تشبه آلة القتل التي ميزت الحرب العالمية الثانية، حيث يلتحق بها الموظفون لأسباب تافهة. وكل محاولة للاحتجاج، أو حتى التساؤل، تعتبر خروجًا عن الإجماع الوطني. فالنقاش العام في ألمانيا يتسم، في الغالب، بطابع الإجماع القسري.

لا يمكن لأحد مواجهة الشمولية الحديثة، إذا تم تغذيتها بقيم ولوغاريتمات سياسية واضحة وبسيطة. ومؤخرًا، في مطلع شهر فبراير الماضي، قدمت وزيرة الثقافة الألمانية، كلوديا روت، مشروعها المثير للجدل لمعالجة الماضي، والذي أطلقت عليه اسم: "إطار مفاهيمي لثقافة التذكر". ويمتد المشروع على أكثر من 40 صفحة، ويهدف إلى إخراج ثقافة التذكر الألمانية من أسر الهولوكوست والحقبة الشيوعية في ألمانيا الشرقية إلى آفاق أرحب وأكثر شمولية.

ويقترح المشروع ثلاثة مجالات أخرى للتذكر: الظاهرة الاستعمارية، وذاكرة المهاجرين في ألمانيا، وتاريخ الديمقراطية وتحولاتها. وتقترح المسودة إفساح المجال لتاريخ الاستعمار الأوروبي والألماني، وتعميق ثقافة التذكر فيما يتعلق بالجرائم الألمانية في أفريقيا، بما في ذلك التذكير بجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الألمان في ناميبيا في مطلع القرن الماضي.

كما ستؤخذ الجروح التي يحملها المهاجرون، الذين استقر بهم المقام في ألمانيا، في الاعتبار بموجب المسودة، وسيتم تخصيص مساحة أكبر لها في الذاكرة الثقافية المقروءة والمادية. وتذكر المسودة بمئات المهاجرين الذين لقوا حتفهم على أيدي متطرفين ألمان في جميع أنحاء البلاد خلال العقود الماضية. ولكن، هناك شيء واحد ربما لم تأخذه المسودة في الحسبان، وهو احتمال فشلها الذريع.

تهيمن على الأجواء الألمانية عقيدة راسخة اختزلت التاريخ في الهولوكوست، وكرست الذاكرة والثقافة حولها وفيها. ولا يملك أحد القدرة على المساس بهذه العقيدة الشمولية، أو مطالبتها بإفساح المجال لغيرها. وما يردده الساسة الألمان عن العبرة التي تعلموها من الماضي، في محاولة لشرح مواقف بلادهم، هو مجرد كلام فارغ لا معنى له. فلا يوجد من يجرؤ على قول شيء مختلف، ولا تصدر مواقفهم عن سياسيين يتمتعون بحرية الإرادة. وتذهب شارلوته فيدامان إلى القول بأن أولئك الذين يطمحون إلى أن يصبحوا جزءًا من منظومة الحكم يسارعون إلى ترديد المواقف والمقولات التي يتبناها رجال النظام، لأن ذلك هو الطريق الوظيفي الآمن.

وخلال نقاش تلفزيوني مباشر، قدمت ديبوره فيلدمان، اليهودية الألمانية، مرافعة أخلاقية قوية حشرت من خلالها السيد هابك، نائب المستشار، في الزاوية الضيقة. وعندما لم يجد ما يقوله، استسلم قائلاً: "مواقفك الأخلاقية تثير الإعجاب، ولكن لا يمكنني كسياسي أن أشاركك إياها. كما أن مسؤوليتنا تجاه الهولوكوست لا تسمح لي باتخاذ مثل هذه المواقف". وعلقت فيلدمان على مداخلته، في مقالة نشرتها في صحيفة الغارديان، بسخرية لاذعة: "كما لو أن الهولوكوست أعفت السياسي الألماني من كل التزام أخلاقي". وعلى هذا المنوال الساخر، ولا يمكن معالجة ما يقوله السياسي الألماني إلا بالسخرية العميقة، كتبت شارلوته فيدامان: "كأنهم يريدون أن يقولوا لنا بما أننا كنا أشرارًا في الماضي، فإننا الآن الأخيار الوحيدون".

وقد أثارت مسودة وزارة الثقافة غضبًا واسعًا داخل الحقل الثقافي والإعلامي. وأرسل عدد كبير من المؤسسات المتخصصة في "الذاكرة" خطابًا جماعيًا إلى وزيرة الثقافة يدين، بلغة رفيعة، هذا المشروع المشؤوم. وتسابق الكتاب والأكاديميون إلى اكتشاف خطورة المشروع على الذاكرة الألمانية. وبدا الجميع فاعلين داخل آلة واحدة، غير قادرين على الخروج عنها قيد أنملة. لقد حولت الشمولية الألمانية قطاعي الثقافة والإعلام إلى نسخة حية من آيخمان، على استعداد لتنفيذ إعدامات باردة استجابة لإرادة النظام، أو تملقًا للقرب منه.

وتبدو تفاهة المشهد الثقافي جلية كما وصفتها آرندت في ستينيات القرن الماضي، حيث يقدم الفاعل أو المخرب أو المجرم على فعلته النكراء من أجل تحصيل قوت يومه، أو ربما تحقيق مكاسب مادية طفيفة، دون أي اعتبار للمرجعيات الأخلاقية أو القيم النبيلة.

ولكن توجد نخبة ضئيلة من المثقفين على استعداد لقول ما تراه صحيحًا، ولتحمل تبعات هذه المواقف التي تتعارض مع "الفاشية السحابية" - إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح الجديد. وقد بادرت وزيرة الثقافة إلى سحب مسودة المشروع من الفضاء العام، وإخفائها من على صفحة الوزارة، ولا توجد معلومات حول مصيره. لقد أرادت أن تقف في وجه البيروقراطية الشمولية المتغطرسة.

وتمتلك ألمانيا تاريخًا طويلاً ومحترفًا مع الفاشية، بينما تبدو خبرتها مع الديمقراطية أقل نضجًا وتجربة. ولم تتردد مديرة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب لحظة واحدة، في شهر أكتوبر الماضي، وهي تملي على المفكرين والمؤلفين الذين قدموا من أماكن عديدة في العالم أوامرها: نحن هنا لنقف إلى جوار إسرائيل من دون "لكن".

ومنذ تلك اللحظة، قلما سمع المرء كلمة "لكن" في ألمانيا. فالحياة الألمانية مصممة على أن تسير جنبًا إلى جنب مع ماكينة النظام متى دارت، وكلما كان المرء أكثر تناغمًا مع القواعد والأخلاقيات التي تقررها السلطة - بما في ذلك ارتكابه درجات مختلفة من العنف تجاه من تصنفهم السلطة على أنهم خطر - كان نموذجيًا وصالحًا أكثر من الآخرين، وتحسنت فرصه الوظيفية. وتلك هي تفاهة الشر المستوطنة في أرض الشعراء والفلاسفة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة